فصل: مطلب احتجاج الحرورية ومعنى الروح وإعلان التفرد بالملك وإجابة الكل للّه به:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وروى مسلم عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص قال:
هاجرت إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يوما فسمع أصوات رجلين اختلفا في آية، فخرج صلّى اللّه عليه وسلم يعرف في وجهه الغضب، فقال إنما هلك من كان قبلكم باختلافهم في الكتاب.
وقد نزلت هذه الآية في الحارث بن قيس السلمي أحد المستهزئين، والمراد بالجدال ما كان منه بالباطل من الطعن في آيات اللّه المبرأة من الطعن، وما كان القصد منه ادحاض الحق وإطفاء نور اللّه عز وجل، يؤيد هذا ما سيأتي من تشبيه حال كفار مكة بكفرة الأحزاب قبلهم.
أما الجدال في آيات اللّه لإيضاح ملتبسها وحل مشكلها ومقاومة آراء أهل العلم في استنباط معانيها وبلاغة مبانيها وردّ شبه أهل الزيغ عنها وإحراقهم بإفحامهم وإظهار جهلهم فيها فهو أعظم من الجهاد في سبيل اللّه تعالى، وهو لازم على كل قادر كامل عارف في كلام اللّه.
هذا، وما نقلناه من الأخبار أعلاه يومىء إلى هذا إذ يشعر أن نوعا من الجدال في القرآن كفر فدحضه من أعظم القربات للّه تعالى وهذا يسمى جدالا عن آيات اللّه لا في آيات اللّه، فلذلك كان محمودا لأن الجدال يتعدى بعن إذا كان للمنع والذّب عن الشيء، ويتعدى بغي إذا كان بخلافه وهو المذموم {فَلا يَغْرُرْكَ} يا سيد الرسل {تَقَلُّبُهُمْ} تصرف الكفرة المجادلين {فِي الْبِلادِ 4} ذاهبين آئبين سالمين غانمين في تجاراتهم وزراعاتهم وزياراتهم، فإن عاقبة أمرهم الهلاك والخسار، ومرجعهم إلى العذاب والدمار.
واعلم أنه كما كذبك قومك {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ} الرسل أمثالك {قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ} الذين تحزبوا على رسلهم بالتكذيب وقاتلوهم فنصر اللّه رسله عليهم، وفي هذه الآية إشارة إلى أن قوم محمد وأقاربه سيتحزبون عليه أيضا، وقد كان منهم ذلك كما سيأتي في الآية 9 من سورة الأحزاب في ج 3، {وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ} فيقتلوه، وفي هذه الجملة إيماء أيضا إلى أن قوم محمد سيهون بقتله وكان منهم أيضا كما سيأتي في الآية 31 من سورة الأنفال، وسيأتي تفصيله في بحث الهجرة في سورة العنكبوت إن شاء اللّه.
هذا سببها الظاهري، أما سببها الباطني فهو علو شأن الإسلام وشموخ حكمته وارتفاع رايته وتعظيم أهله {وَجادَلُوا} رسلهم {بِالْباطِلِ} كما جادلوك به {لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} الذي جاءوهم به ويمحقوه بقصد إبطاله، ولكن اللّه تعالى يأبى إلا أن يتم نوره ويطفىء كلمة الكفر على رغم أنفهم.
قال تعالى: {فَأَخَذْتُهُمْ} ودمرتهم عقابا لفعلهم ذلك {فَكَيْفَ كانَ عِقابِ 5} إياهم أي كان عقابا مهولا يتعجب منه المتعجبون {وَكَذلِكَ} مثل ما وجب العذاب على أولئك أقوام الرسل قبلك {حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ} بالعذاب {عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} من قومك، لأن السبب الداعي إليه واحد وهو {أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ 6} في الآخرة فضلا عن عذاب الدنيا الذي عجلناه لهم، يقرأ أنهم بالكسر على أن الجملة بدل من قوله كلمة ربك وبفتح الهمزة على حذف لام التعليل وهكذا.
قال تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ} من الملائكة {وَمَنْ حَوْلَهُ} منهم الحافّين به وهم سادات الملائكة وأعيانهم.
وكلمة الذين كلام مستأنف مبتدأ خبره {يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ} بأنه الواحد الفرد الصمد الذي لا شريك له ولا وزير ولا صاحبة ولا ولد، وهذا إظهار لشرف الإيمان وترغيب المؤمنين به، لأنهم مؤمنون حقا وإيمانهم به معلوم، وهذا على حد وصف الأنبياء بالصلاح والصدق والوفاء وهم كذلك إظهارا لوصف هذه الخصال، وترغيبا للمؤمنين بالاقتداء بهم فيها.
وكيفية تسبيحهم واللّه أعلم هو: سبحان ذي الملك والملكوت، سبحان ذي العزة والجبروت، سبحان الحي الذي لا يموت، سبوح قدوس رب الملائكة والروح، وهم خشوع لا يرفعون طرفهم من هيبة جلاله، وهم أشد خوفا من جميع أهل السموات، لأن العبد كلما ازداد قربا من ربه ازداد معرفة به، وكلما ازداد معرفة ازداد خشية منه، ولذلك من عرف ربه هابه كما أن الذي يتقرب من الملك يعرف من سطوته مالا يعرفه غيره البعيد عنه، فيشتد خوفه بقدر قربه منه ومعرفته له {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} ويقولون في استغفارهم {رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} أي وسع علمك ورحمتك كل شيء فكل منها تمييز محول عن الفاعل {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا} من عبادك من كفرهم وعصيانهم {وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ} القويم في الدنيا وآمنوا برسلك وكتبك فاعف عنهم يا مولانا {وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ 7} في الآخرة {رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ} على لسان رسلك يا ربنا، هم {وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ} الغالب المنيع سلطانه البديع شأنه {الْحَكِيمُ 8} فيما يفعل الذي لا يقع في ملكه إلا ما هو مقتضى حكمته الباهرة.
ونظير هذه الآية بالمعنى الآية 21 من سورة الطور الآتية والآية 22 من سورة الرعد في ج 3 فراجعهما.
ومنها يفهم أن مطلق الإيمان كاف لإلحاقهم بهم وإدخالهم الجنة، لأن الإنسان متى ما وسم بالإيمان صار صالحا لدخول الجنة ولو لم يعمل شيئا، وذلك من فضل اللّه بعباده {وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ} وأجرهم من عقابها بكرمك وجودك وإحسانك {وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ} الموجبة للعذاب وتمنعه من قربانها بفضلك وتوفيقك وهدايتك {يَوْمَئِذٍ} يوم إذ كان في الدنيا {فَقَدْ رَحِمْتَهُ} رحمتين رحمة في الدنيا من أن يوصم بها، ورحمة في الآخرة بالنجاة من عقابها ووبالها.
واعلم أن لفظ السيئة عام في كل شيء يعمله الإنسان بنفسه أو بغيره مالا وبدنا مادة ومعنى من كل ما يطلق عليه لفظ قبيح وجميع الحركات الرذيلة والإشارات البذيئة {وَذلِكَ} اتقاء السيئات في الدنيا والرحمة بالآخرة هو {الْفَوْزُ الْعَظِيمُ 9} في جوار اللّه تعالى في جنته فلا فوز أعظم منه ولا تصل العقول إلى كنه عظمته.
انتهى كلام الملائكة عليهم السلام وهو كلام جميل بديع جامع مانع محصور في جهتين التمجيد للرب وطلب المغفرة لأهل الإيمان.
قال مطرف: أنصح عباد اللّه تعالى للمؤمنين الملائكة، وأنمش الخلق لهم الشياطين.
وقد وردت أخبار كثيرة في وصف الملائكة والعرش ضربنا عنها صفحا لعدم الوثوق بصحتها، ولأنهما في الحقيقة فوق ما يقولون ولا يعرف حقيقتهما وصفتهما على ما هما عليه إلا اللّه تعالى، وما نقل من الأخبار لا قيمة له، لأنهما مما لم يشاهد وما لم يشاهد لا يوصف.
هذا، وقد أخرج جابر عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال: أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة اللّه تعالى عزّ وجل من حملة العرش إن ما بين شحمتي أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمئة عام.
وروى جعفر عن محمد عن أبيه عن جدّه قال: ما بين القائمة من قوائم العرش والقائمة الثانية كخفقان الطير المسرع ثلاثين الف عام.
فما بالك ببقية الأوصاف التي ذكرها الأخباريون؟ لأن العقل لا يسعها، فعلى العاقل أن يكتفي بما وصف اللّه في كتابه من كونهم غلاظ شداد لا يعصون اللّه ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، وأن العرش من عظم خلق اللّه، وأن الملائكة أقوياء أشداء متناهون في العظمة، وقدمنا ما عثرنا عليه من الأقوال الصحيحة في الآية 20 من سورة التكوير والآية 54 من سورة الأعراف والآية 4 من سورة طه والآية الأولى من سورة الإسراء في ج 1 والآية 6 من سورة هود المارة فراجعها.
هذا، وقد جاء دعاء الملائكة شاملا وكأنها القائل:
إن تغفر اللهم فاغفر جمّا ** فأي عبد لك لا ألمّا

أشار إلى دعائهم.
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ} يوم القيامة من قبل خزنة جهنم حين يضجون من المكث فيها فتقول لهم الملائكة {لَمَقْتُ اللَّهِ} لكم {أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ} والمقت البغض الشديد والبغض نفار النفس من الشيء ترغب فيه، وهو ضد الحب وأشده لمن يراه متعاطيا القبيح من الأعمال، فالكفار يمقتون أنفسهم من طول المكث في جهنم، لأنها أمرتهم بالسوء الذي من أجله وقعوا فيها فيغضبون عليها ويغيظونها ويعضون أناملهم من الغيظ حتى يأكلونها وينكرون على أنفسهم بما قادتهم إليها شهواتهم على رءوس الأشهاد، فعند ذلك تناديهم الملائكة كما قص اللّه عز وجل فتقول لهم {إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ 10} باللّه وتكذبون رسله تبعا لأهوائكم واقتداء بآبائكم، فهذا جزاؤكم، فيجاوبونهم بقولهم: {قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ} الموتة الأولى حينما أشهدهم على أنفسهم في عالم الذر وأخذ عليهم العهد بالإيمان به وبرسله، راجع الآية 152 من سورة الأعراف في ج 1، ثم خلقهم بعد هذه الموتة التي كانوا بعدها في أصلاب الآباء وأرحام الأمهات مستقرين ومستودعين، ثم أماتهم بعد انقضاء آجالهم في الدنيا، والموتة الثانية في القبر بعد الإحياء للسؤال {وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} الأولى في الدنيا بالولادة والظهور إلى عالم الظهور من دنيك المستودع والمستقر راجع الآية 99 من سورة الأنعام المارة، قال الغزالي: الولادة الأولى الخروج من الصلب والترائب إلى مستودع الأرحام فهو في الرحم في قرار مكين إلى قدر معلوم، ثم تكون الولادة الثانية من الرحم إلى هذه الدنيا، والحياة الثانية الإحياء للبعث في الآخرة، ونظير هذه الآية الآية 29 من سورة البقرة فراجعها.
هذا، وقد عدد في هذه الآية أحوال المحنة والبلاء أربعة: موت في عالم الذر وموت في الدنيا وحياة في الدنيا وحياة في الآخرة، وكلها عرضة إلى المحن والبلايا، وقد استدل كثير من العلماء بهذه الآية على عذاب القبر وفسروا الحياة الثانية فيه والموتة الثانية التي تعقب هذه الحياة، وسيأتي لهذا البحث صلة في الآية 46 من هذه السورة، وقالوا أيضا لربهم {فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا} الآن وتبنا عما كنّا عليه في الدنيا {فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ 11} للرجوع إلى الدنيا لنعمل صالحا يا إلهنا لأنا عرفنا كل شيء كنا نكرهه وننكره أنه حق كالبعث وإنزال الكتب وإرسال الرسل والجنة والنار وغيرها والحساب والعقاب على كل ذرة من الأفعال وكل حرف من الأقوال وكل حركة من الأطوار وكل فتيل ونفير وقطمير، وتحقق لدينا أن الشرك باطل والأوثان لا تنفع وأن الملائكة وعزير وعيسى عباد اللّه تعالى ليس لهم من الأمر شيء ولا شفيع ولا شفاعة إلا بإذن اللّه لمن يريده، وأن اللّه منزه عن الصاحبة والولد لا وزير له ولا شريك.
فقيل لهم لا طريق إلى الرجوع إلى الدنيا ولا سبيل إلى الخروج من النار {ذلِكُمْ} الذي أوقعكم في العذاب وحرمكم من ثواب الآخرة منّى لكم الرجوع إلى الدنيا هو {بِأَنَّهُ} كنتم {إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ} به واشمأزت نفوسكم من ذكره {وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا} تصدقوا وتستبشروا، وقد بلغتكم رسلكم مصيره وحذرتكم هول هذا اليوم الذي تخلدون فيه بما أنتم عليه من العذاب، وليس بوسع أحد إجابة طلبكم، ثم تقول لهم الملائكة أيضا قولوا كما نقول نحن لا مناص مما حكم اللّه به {فَالْحُكْمُ لِلَّهِ} في هذا اليوم العصيب {الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ 12} الذي لا أعلى ولا أكبر منه، ولا رادّ لحكمه ولا معقب لقضائه.

.مطلب احتجاج الحرورية ومعنى الروح وإعلان التفرد بالملك وإجابة الكل للّه به:

قيل كان الحرورية أخذوا قولهم لا حكم إلا للّه من هذه الآية، قال قتادة:
لما خرج أهل حروراء قال علي كرم اللّه وجهه من هؤلاء؟ قيل المحكمون أي القائلون لا حكم إلا للّه، فقال رضي اللّه عنه: كلمة حق أريد بها باطل.
واستدلالهم هذا فاسد واه، ويكفي الرد عليهم قوله تعالى: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِها} الآية 35 من سورة النساء ج 3 وقوله تعالى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ} الاية 95 من المائدة ج 3، فإذا كان جل جلاله أمر بالتحكيم لحل خلاف بين الزوجين وتقدير قيمة الحيوان المصاد أو مثله فلئن يأمر بالإصلاح بين المسلمين على طريق التحكيم من باب أولى وخاصة ما يتعلق بأمر الإمامة.
قال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ} الدالة على قدرته في كل شيء من مكوناته:
وفي كل شيء له آية ** تدل على أنه واحد

قالا أو حالا {وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقًا} ماء هو نفسه رزق، وفي الآية 5 من سورة الجاثية الآتية {مِنْ رِزْقٍ} لأنه أفضل الأرزاق وأحوجها للبشر، ويتسبب عن نزوله جميع الأرزاق لجميع الحيوانات على اختلاف أجناسها وأنواعها وفصائلها شرابا وقوتا وفاكهة غطاء ووطاء ولباسا {وَما يَتَذَكَّرُ} في هذا الرزق الذي فيه حياة كل نام وبقاء كل جامد {إِلَّا مَنْ يُنِيبُ 13} إلى خالقه في جميع أموره، فالخاشع الخاضع هو الذي يتذكر في تلك الآيات الباهرات المبرهنة على وجود الخالق وصدق ما جاء به رسله، ولذلك {فَادْعُوا اللَّهَ} أيها الناس حالة كونكم {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} من كل شك وريبة وشبهة ومرية {وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ 14} إنابتكم وإخلاصكم فلا تلتفتوا إليهم، وألجئوا إلى ربكم ذلك الإله العظيم {رَفِيعُ الدَّرَجاتِ} المعارج المعظمة في غيوبه وفي صفات جماله وجلاله وكماله وهي مصاعد الملائكة إلى عرشه العظيم حين يعرضون إليه عليها وهو كناية في علو عزّته وشامخ ملكوته ورفعة شأنه وارتفاع سلطانه وسامي برهانه، ورفيع وما بعده اخبار لقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ} إلخ أو كل منها خبر لمبتدأ محذوف تقديره هو رفيع، وكلمة رفيع لم تكرر في القرآن {ذُو الْعَرْشِ} المجيد الذي وسع كرسيه السموات والأرض وهو الذي {يُلْقِي الرُّوحَ} التي هي {مِنْ أَمْرِهِ} ولم يعلم أحد ماهيتها، أو الوحي المعبر عنه بالروح لما فيه من حياة الأرواح {عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ} الذين اصطفاهم لطاعته واجتباهم لرسالته، وقال بعضهم إن الروح هنا جبريل عليه السلام فتكون جملة {من أمره} سببية، أي يلقى الروح من أجل تبليغ أمره، ولا يخفى أن الروح يطلق على معان كثيرة الروح المعلوم والقرآن وجبريل والوحي، وكلها ينعم اللّه بها على عبادة المهتدين في تفهيم الإيمان والمعقولات الشريفة، والكل جائز هنا، والأولى أن يكون بمعنى الوحي لمناسبته لما بعده، واللّه أعلم.
وقد أسهبنا البحث في الآية 86 من سورة الإسراء فراجعها في ج 1 {لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ 15} هو يوم القيامة إذ يتلاقى فيه الأولون والآخرون وأهل الأرض والسماء والأنبياء وأممهم والعابدون والمعبودون والظالمون والمظلومون والمتحابّون في اللّه، فتراهم {يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ} ظاهرون للعيان لا يخفى أحد عن أحد، لأن اللّه يعطي الخلق قوة الإبصار بحيث يرى بعضهم بعضا جميعا، لا تحول رؤية أحد عن أحد، ثم يتجلى عليهم بحيث {لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْ ءٌ} من أشخاصهم، ولا من أحوالهم وأفعالهم، كيف وهو المطلع عليهم في حين كونهم في الرحم إلى وقت وقوفهم بين يديه في الآخرة إلى ما بعد ذلك، لا يعزب عن علمه ذرة مما عملوه في الدنيا وما يصيبهم مثلها في الآخرة وإنما خصّ يوم بروزهم وهو عالم قبل ذلك وبعده، ولو اختفوا في أطباق الأرض أو في أقطار السماء، لأنهم كانوا في الدنيا يتوهمون أنه لا يراهم إذا استتروا بالحجب وأنه قد تخفى عليه بعض أحوالهم، أما اليوم فقد زال توهمهم وانمحق ظنهم، لأنهم مكشوفون على وجه البسيطة التي لا عوج فيها ولا ارتفاع، ثم يقول اللّه تعالى لجميع خلقه {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} فتخضع الخلائق إجلالا لهيبته وإعظاما لجلاله وخاصة ملوك الدنيا فإنهم ينحنون لعظمته ويطأطئون رءوسهم لجلاله حياء وخجلا لا يتكلم أحد منهم، فيجيب الربّ نفسه بنفسه {لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ} 16 الذي قهر عباده بالموت وبعثهم قسرا للحساب والجزاء الذي لا رب غيره.